[gazzaz_man]

سيدة النور

الظلام يلف بيتنا الكبير والسكينة تخيم على كل من فيه وما فيه ..

أكاد لا اصدق ..خمسة أشهر انقضت منذ أن غادرتنا سيدة النور وتركت لنا الحزن ينساب من كل الزوايا المعتمة ..

وها أنا لا أزال أفتش عنها والتمس قبسا من نورها في كل زاويا البيت .. رأسي توشك أن تنفجر وخليط من الصور والذكريات يحلوها ومرها يزدحم فيها .

رحلت أمي بصمت ..

بهدوء ,كهذا رحلت ..

بعد صراع طويل مع المرض رحلت ..

بخطأ طبي قاتل رحلت ..

هذا الخطأ كان أول حلقة في مسلسل الأخطاء الطبية أللذي استر تسعة عشر عاما حتى كانت الحلقة الأخيرة وأسدل الستار على المسلسل التراجيدي .

لا زلت اذكر ذاك اليوم المشئوم .. حين احتاجت أمي إلى نقل دم جراء عمليه جراحيه ..

كان الدم فيها ملوثا وأدى بها إلى لأصابه بالتليف الكبدي .

أشارت مجلة بريطانية مختصة بالشؤون الطبية إلى أن عددا قد يصل إلى ثلاثين ألف شخص يتوفون سنويا في بريطانيا بسبب أخطاء طبية وما يقرب من مائة ألف شخص في الولايات المتحدة الأمريكية .

هذا يحدث في الدول المتقدمة وماذا عن دولتنا في العالم الثالث ..؟

وماذا عن مستشفياتنا ؟

من واقع ما تطالعنا به صحافتنا المحلية .. ومما نسمع ومما نشاهد ونعايش في هذه المستشفيات يبدو أننا في عداد الدول المتقدمة في ركب الأخطاء الطبية .

"عادي!"

نعم ,يكاد أن يكون الخطأ الطبي أمرا عاديا في أرقى وأكبر المستشفيات الحكومية والخاصة على حد سواء ,بل أصبح الخطأ الطبي قاعدة ,والصواب هو الاستثناء .

الطبيب الذكي هو الذي كلما وقع في خطأ طبي , وجد لنفسه الأعذار الجاهزة واللذيذة..

وهو الذي يزهو كالطاووس حين ينجح , ويضع رأسه في الرمل متحايلا في البحث عن حجج لتبرير أخطاءه القاتلة أحيانا .

هذه الخواطر كانت ولازالت تصرخ بي وتلح على عقلي ووجداني وأنا أراقب نور سيدة النور وهو يخبو رويدا رويدا ومن ثم يتلاشى إلى الأبد .

كان (ي.ق ) إستشاري باطنة تخصص كبد هو ذالك الطاووس الذكي , اعني الطبيب الذكي .

وبالرغم من شعورنا بعدم كفائتة , إلا أن أمي لم تشأ أن تستبدله بطبيب آخر ,لثقتها الكبيرة به ولأنه كان يطمئنها دائما بكلمة الحالة مستقره ولله الحمد. . كم كانت طيبه .

وعلى مدى تسع سنوات كان جسدها الطاهر حقل تجارب لمختلف أنواع الأدوية .. تلك الأدوية التي أدت في النهاية إلى أثار عكسية أقلها تقرحات بالمعدة وفشل كلوي وهلوسة .

اسقط في يد الطبيب الذكي على مقعده مدحورا وأطرق برأسه الفارغة وكأنه يضعها في الرمل يواري خيبته وفشله الكبير وعاد من جديد لينتقض انتفاضة (نيوتن ) وهو يكتشف قانون الجاذبية , ليقول كلمته الاخيره بصوته المتحشرج وكأنه النفس الأخير :

"ابحثوا لها عن كبد "

تدافع المتبرعون من أهل الخير..ولكن اكتشفنا مؤخرا أن حالتها لكي يتم لها زراعة جزء من الكبد يجب أن تكون قبل ثلاث سنوات على الأقل انما حالتها تحتاج إلى زراعة كبد كامل ...



وفي غمرة بحثنا اليائس عن متبرعين كانت الحالة تزداد سوءا ,وشيئا فشيئا بدأت الحالة الصحية في التدهور .. فشل كلوي والدخول في غيبوبة .. وأدخلت سيدة النور غرفة العناية الفائقة وكأنما أدخلت في التابوت ..

ومع ذلك حاولنا جاهدا نقلها إلى مستشفى بها جهاز لغسيل الكلى لان المستشفى الخمس نجوم أرقى مستشفى بجده وعلى البحر لا يوجد بها جهاز لغسيل الكلى؟!

ولكن هيهات ..هيهات,رفعت الأقلام وجفت الصفحات الأخيرة من الفصل الأخير وأسدل الستار على هذه التراجيديا..

رحلت أمي ...

أطفؤا الشمعة ..

قتلوا الوردة ..

رحلت تاركة أبواب السماء خلفها مشرعة لدعاء لها بالرحمة والجنة .





رحمة الله عليكي يا أمي الغالية