منتدى قزاز العام - المطعم الأسود

المطعم الأسود

الإنسان المكفوف عاطفي وشفاف وحساس، وذو وجهة نظر ثاقبة وحكيمة، وله بصيرة قادرة علي وزن الأمور، وله مواهب كثيرة تصل إلى حد الإبداع والابتكار

صح في الحديث الشريف عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم قوله: " اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع ، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة " ـ

رواه أبو داود ، والنسائي، وابن ماجة ـ .

اليوم 16 تشرين الأول/أكتوبر؛ (يوم الأغذية العالمي)،الذي يُحتفى بذكراه سنويا بمناسبة ذكرى إنشاء منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة ـ الفاو ـ

((Food and Agriculture Organization)) ، بهدف تعميق الوعي العام بمعاناة الجياع وناقصي الأغذية في العالم ، وتشجيع الناس في مختلف أنحاء العالم على

اتخاذ تدابير لمكافحة الجوع. شعار (الفاو) لعامنا هذا هو؛ "معا لمكافحة الجوع"، وسبب اختياره بلوغ عدد الجياع في العالم إلى رقم مخيف ومحرج (مليار نسمة)، مما يحتم على

أصحاب القرار التفكير بشكل جدي في النهوض بمستويات التغذية، وتحسين القدرة الإنتاجية الزراعية، وترقية الأوضاع المعيشية لسكان الريف، والإسهام في نمو الاقتصاد العالمي،

والتأكد من إمكانية وصول غذاء عالي الجودة للناس على أسس يومية، بحيث يستطيع الفرد أن يعيش عيشة نشطة صحية، وبحيث يتم تحقيق الأمن الغذائي للجميع ـ الأمن الغذائي

معناه ألا يمنع أحدٌ أحدا من الطعام ، وأن يتمكن الناس من إنتاج احتياجاتهم من الأكل ـ ومسؤولية تحقيق هذا الأمن داخليا وخارجيا تقع أول ما تقع على زعماء الناس وحكامهم،

الذين لا شك أنهم يرفضون تجويع وتركيع إخوانهم المحصارين هنا وهناك .

الإحساس بالمعاناة مع الشبع أيضا أمر موجود ، وممن جربه مرتادو (المطعم الأسود Dans le noir) الذي بدأ في العاصمة الفرنسية ، حيث يقوم المكفوفون بتقديم الطعام ،

يؤكدون من خلال ما يفعلون قوله تعالى: (.. فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) المطعم مظلم ، شديد العتمة ، والأكل داخله خير اختبار للحواس ، وأفضل

تقدير للنعمة . تأكل دون أن ترى الأكل ، ودون أن ترى من معك ، ولا يمكنك التحرك إلا بقائد (كفيف) يقودك حيثما تريد ، والأكل طعمه مختلف بحيث إن حواسك الأخرى

وحاسة التذوق خاصة ، تعمل بشكل كبير لتعويض حاسة النظر .

المكفوفون ـ على الحقيقة والمجاز ـ احتفوا أمس 15 أكتوبر بيومهم العالمي (يوم العصا البيضاء) ، التي يستخدمونها كوسيلة تعويضية تقيهم الاصطدام أثناء الحركة ، وتنبه غيرهم

للاهتمام بهم . كف البصر (العمى) متعدد الأنواع ؛ منه الكلي ، ومنه الجزئي ، ومنه الناتج عن عارض صحي أو إهمال غذائي ، ومنه الليلي ، ومنه النفسي ، ومنه عمى الألوان .

والإنسان المكفوف عاطفي وشفاف وحساس ، وذو وجهة نظر ثاقبة وحكيمة ، وله بصيرة قادرة علي وزن الأمور، وله مواهب كثيرة تصل إلى حد الإبداع والابتكار. والتاريخ مليء

بالنماذج الفذة والعظيمة من الرجال والنساء ، والكبار والأطفال الذين تركوا بصمات ولمسات بارزة في المجتمع الإنساني والعالمي وأسهموا بصدق وفاعلية في الحضارة الكونية .

ومن هؤلاء الشاعر الكفيف منذ الولادة (بشار بن برد) ـ وبغض النظر عن تفصيلات حياته ـ فإنه كان مولعا بالشاعر الهجائي الشهير (جرير) ، ومن ذلك نظمه قصيدة غزلية أكد

فيها أنه ببصيرته يرى ، فكرر بيت العيون المشهور لجرير :

" إن العيون التي في طرفها حور قتلننا ثم لم يحيين قتلانا "

وأضاف عليه معارضا :

" يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا "

مؤكدا بذلك على أن حاسة سمعه ككفيف فاقت حاسة الإبصار .

شخصيا أتمنى من الشباع والمبصرين أن يفكروا فيمن حولهم من الجياع والمكفوفين ، وأن يجربوا حالهم ، فبالتجريب وحده سنقدم كل غال ونفيس لفئات منا ، غيبناها عنا .

عبدالله فدعق