غزة تحترق ونحن نتفرج - د. يحي القزاز
غزة تحترق ونحن نتفرج - د. يحي القزاز
| |
|
هل صار الدم العربي رخيصا والدم الفلسطيني أرخص؟! سهام تخترق أجسادنا وتمر بسلام، فأجسادنا العربية صممت وبها ممرات للرصاص وللسهام وللسلام والاستسلام ولكل الموبقات. الكلام لا يجدي، والصراخ لا يُسمع الصُم، والتسول لا يعيد حقا سليبا، و"غزة" وصفتها سابقا بأنها مجزرة ومقبرة، واليوم وزير الدفاع الصهيوني يهدد "غزة" بأن تكون محرقة في غياب الضمير الإنساني، وحضور الصمت العربي.
أشعر بالخجل والعجز عن الوصول والانضمام إليهم في فلسطين، وأكتفي بمشاهدة قناة الجزيرة، وعلى شاشتها أرى أطفالا فلسطينيين يقتلون برصاص العدو الصهيوني، امتعض.. أتمتم.. وأشيح بوجهي كما يصنع نساؤنا في صعيد مصر، عندما يشاهدن حدثا جللا يصعب رؤيته واحتماله.
نظرت قبالتي في وجه طفلي الصغير، رأيت فيه ملامح الطفل الفلسطيني الشهيد، انتفضت واحتضنته.. تحسست جسده ونبضه.. حي.. يتحرك. أختلس النظر إلى الشاشة، ألمح وجوها ملائكية مهشمة وأجسادا ملطخة بالدم لأطفال محمولين على أيدي الرجال إلى مثواهم الأخير.. أموات هم، بل أحياء عند ربهم يرزقون. أعاود النظر لطفلي ثانية .. أحتضنه وأتشبث به. وأستعيذ بالله من الشيطان الرجيم خشية أن يمسه مكروه. اختلطت صور الأطفال بصورة ابني، وصرت أرى في كل طفل مسجى صورة طفلي، وأشك أن مَن بين يدي حي يتحرك.
أخشى على أبنائي الموت، وأتمنى أن تسبق منيتي منيتهم، وكأن أطفالنا ولدوا ليعيشوا، يتمتعون بالحياة، وأطفال الفلسطينيين ولدوا ليموتوا مشيعين بالزغاريد. يا إلهي..الزغرودة رمز الفرح والعرس، تصير بديلا للنحيب والبكاء.. إنها قمة المأساة أن تبتسم وأنت تتألم، وتزغرد وأنت تشيع فلذة كبدك إلى مثواه الأخير.. وكأنك تزفه إلى عروسه. أبناء الموت وأطفال الموت.. عرفوا الحكمة وأمنوا بها فطلبوا الموت لتوهب لمن بعدهم الحياة.
تنتقل الكاميرا وتتجول بين أنقاض المباني في غزة .. ترصد رهطا من السيدات والأطفال الرحل إلى غير جهة معلومة.. بحثا عن الأمان من القصف الصهيوني والصمت العربي، وأخري تسهر على أسرة من خمسة وعشرين فردا، معظمهم من الأطفال محشورين في غرفة كعلبة السردين.. تعتصم بالله، وتشكو همها لله، وأخرى .. وأخرى تتساءل عن العرب والمسلمين.. فلا صوت ولا صدى.. لم تعرف ولم أعرف أنهم ماتوا وقت إعلان الكيان الصهيوني الحقير دولته، وتحسست نفسي.. فأنا واحد من هؤلاء الموتى.. اكتشفت أنني الحي الميت.. وأسوأ اللحظات أن تشعر بالرجولة وتكون عاجزا عن الفعل، وحيا وغير قادر على الحركة، فالرجولة موقف.. والحياة قدرة على التفاعل والمقاومة.
أعاود النظر إلى زوجتي وأبنائي، أشعر بالانكسار، أدفن رأسي في حجر طفلي الصغير، أطارد صور الفضائيات من قاع الجمجمة، وأدعو لأبنائي بطول العمر.. يصرخ صغيري: "إسرائيل لازم تموت"، أحتضنه بقوة وبأنفاس لاهثة: "وأنت يا بني لازم تعيش".. تصفعني يد الطفل الشهيد من التلفاز وبابتسامة ندية: "والفلسطيني لازم يموت "عشان" غيره يعيش". تضاءلت شيئا فشيئا ولم أتلاشى.. تلعثمت: ماذا لو قتل الصهاينة أبناءنا وأبناء الحكام والأثرياء العرب؟ ليتهم يصنعون .. ليتهم يفلحون.. ربما تحركنا.. وربما صمتنا للأبد في مقابر من النيل إلى الفرات.
د. يحيى القزاز
29/2/2008
|
__________________
الحـــــــــــــــــياة
مليئـــــــة بالحجــــــــــارة
فلا تتعـــــثر بهـــــــا بــل اجمعـــــها
وابــــن بهــــا سلمــــا تصـــــعد بـــه نحــــو النجـــاح
|