كثيراً ما استوقفتني كلمة "مسئول" في كل مرة كنت أراها تسترخي بتواضع فوق السطور. ولعلني كثيراً ما تساءلت عن طريقة كتابتها ، فهل تكتب "مسئول"كما جرت العادة ؟! أم تكتب "مسؤول" كما تقتضي قواعد الكتابة ؟! ولكن أكثر ما أهمني ـ في الحقيقة ـ ليس شكل الكلمة بل معناها وهل يتوافق معناها مع مقتضاها ؟!!!
لقد درج استعمال كلمة "مسئول" أو "مسؤول" ـ سـيان ـ لتعني ذلك الشخص المكلف بالإشراف والمراقبة والتوجيه لأشخاص يقومون بعمل ما في مصلحة ماأو مؤسسة معينة ، سواء كانت حكومية أو خاصة . ويقوم ذلك الشخص ـ إفتراضاً ـ بكل ما كلف به من أعمال كمراقبة حضور الموظفين وانصرافهم وأسلوب أدائهم ومدى فاعليتهم وإنتاجهم ، كما يقوم للعمل بالتخطيط وتوزيع مهام العمل بالمشاركة مع الموظفين أنفسهم كل حسب كفاءته وميوله بما يضمن حسن سير العمل وما تقتضيه المصلحة العامة. ويتدرج سلم المسئولية في مجتمعنا العربي إلى درجات كثيرة ، تبدأ من مدير المكتب فالمدير المباشر فمدير القسم فمدير ...الوحدة فمدير الإدارة فالمدير العام وهكذا طويلاً حتى تصل إلى أعلى المراتب التي لا يسمح بالحديث عنها ولا حتى بمجرد التلميح.
كلهم مسئولون . وكلهم يتمتعون بما يجوز لهم وما لا يجوز ، ويستأثرون بما يروق لهم من أرزاقهم وأرزاق غيرهم ، ويتحكمون بمقدرات الناس وشئون حياتهم بمزاجية رهيبة وإحساس بليد . كلهم مسئولون إلا "الموظفون في الأرض" الذين هم وحدهم يدفعون ثمن مزاجية وهوى المدراء والمسئولين ويتعرضون لكل أشكال الإبتزاز النفسي والأخلاقي والمادي وحتى ربما الجسدي . ويتعامل هؤلاء المسئولون ـ إلا قليلا منهم ـ مع سلطة المنصب على إنها حق شخصي مكتسب وليس تكليفاً ومسئولية أمام الله أولاً ثم أمام نفسه والناس .
أعود إلى التمعن مرة أخرى في كلمة "مسئول" وأخرج بعد غير كثير من التفكير مقتنعاً بأننا ، وبناء على واقعنا العربي قد أخطأنا التعبير ، لأن المسئول ـ في الحقيقة ـ هو ذلك الموظف المسكين الذي يقوم بكل شيء ويسأل عن كل شيء ويدفع ثمن كل شيء. أما الأخرون فهم سائلون وليسوا مسئولين . هم الذين يسألون ويحاسبون ويقيمون ، وهم الذين يفعلون كل ما يريدون ولايسألون عما يفعلون ، يتحصنون بذلك المنصب الرفيع ويحتمون بالمكتب الوثير والتوقيع الكبير والختم المدور الثمين.
وهذه واحدة من أكبر المشاكل في مجتمعنا العربي ، وعقبة كبيرة في طريق التنمية والتقدم ـ هذا إذا كان العرب مهتمين حقيقة بذلك ـ حيث يقوم المدير أو المسئول بمجرد استلامه مهام منصبه باستعراض عضلاته بمجموعة من الإجتماعات التهديدية والتأكيد على النظام والمسئولية ، ثم يقوم باختيار حاشيته ورعاياه على أسس من التمكن والقدرة في فن إرضاءه والتفاني في خدمته على كافة المستويات ، ثم يقوم بعدها باختيار مجموعة من الموظفين الضعفاء ليمارس عليهم دور التسلط والإلتزام بالأخلاق والنظام وذلك باختلاق المشاكل لهم وإصدار القرارات الصارمة بحقهم والبركة ـ بالطبع ـ في شلته لتكون الشاهد والمؤيد . ثم ينطلق المدير بعد ذلك في عوالم رحبة من التسلط والتحكم ، والحكم بما يشتهي هواه ، وتلذ عيناه ، حتى ليبدو للناظر أن المصلحة ملكه وأن الموظفين عبيد عنده بل حتى ليتدخل في حياتهم وأسلوب معيشتهم ناسياً أو متناسياً أنه موظف مثلهم متعللاً بالحرص على مصلحة العمل التي يكذبها فعله ، وتفسدها تصرفاته . وويل للموظف الذي لايسعد بذلك ، والويل كل الويل لذلك الموظف الذي لايجيد فن إرضاء المدراءوالمسئولين حتى لو كان من أنشط الموظفين وأكفأهم .
إن اختيار المدراء أو المسئولين يتم ـ في أغلب الأحيان ـ حسب الهوى أو خبط عشواء دون الرجوع إلى مبادئ سليمة وقواعد ثابتة ، وهي إن وجدت فإنها غالباً ماتقوم على عنصرية ومحسوبية ومصالح شخصية ويتم التركيز عليهم دون غيرهم والذين ينجزون العمل ـ في الحقيقة ـ هم الموظفون وليس المدراء. فهل ينجز مراقب الأبنية شيئاً إذا لم يعمل البناء ؟! .. وهل ينجز مدير المصنع شيئاً إذا تكاسل العامل ؟! .. وهل ينجز مدير المدرسة شيئاً إذا لم يجتهد المدرس ؟! .. وهل يستطيع الطبيب أن ينجز شيئاً بدون الممرضة أو الفني ؟! .إن الحاجة إلى الموظفين أهم وأكثر بكثير من الحاجة إلى المدراء والمسئولين ولهذا يجب التركيز عليهم وحل مشاكلهم وتطبيق مبدأ الثواب والعقاب بشكل سليم وعادل ، فهم أساس العمل وأساس الإنجاز.
أما فيما يتعلق بالمسئولين فيجب أن يتم تقنينهم واختيارهم بشكل دقيق وحسب معاييردقيقة ، وأن يكونوا مسئولين فعلاً قبل أن يكونوا سائلين وأن يتقوا الله في ما استرعوا عليه ، كما ويجب تأهيلهم ومراقبتهم ومحاسبتهم على تصرفاتهم وإدارتهم للعمل والتأكيد على إسناد الإنجاز إلى صاحبه فلا يقوم مدير وبمجرد توقيع بالإستيلاء عليه والإستفادة من تبعاته ، لأن في ذلك إحباط للمجتهدين ، وانتصار للعاجزين والحاقدين من أعداء النجاح ، وإلا أصبح من الضروري افتتاح كلية خاصة لدراسة " فن إرضاء المدراء " يتلقى فيها الطالب أسس هذا الفن وأهمية تنفيذه وإتقانه إلى جانب التخلي عن المبادئ والقيم ، والتفرغ لإضحاك المدير وتسليته أو إرضاء غروره وعدم الإهتمام كثيراً بإتقان العمل وبهذا يكون من أنجح الموظفين، وأكثرهم نيلاً للمكافآت البدلات ، وكذلك فإننا بافتتاح مثل تلك الكليات سنستغني عن الكثير الكثير من الكليات الأخرى التي وضعت لتخريج أجيال من الشباب المؤهلين موفرين الكثير من الطاقات والأموال المهدرة .
وقبل أن يعصف بنا الكلام ، ويشتد الملام ، وربما يتولد الخصام ، أقول : أيها السائلون رحمة بالمسئولين . أيها السائلون كونوا مسئولين ، وتذكروا قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم "كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته " . فاتقوا الله فيما استرعيتم عليه ، كونوا مسئولين بحق من أجل وطن عربي مزدهر ينعم بالنماء والتقدم والخير ، ويفخر أبناء مخلصين متحابين منتجين.
__________________
أحب الصالحين ولست منهم لـعـلي أن أنــال بـهم شـفاعة
وأكره من تجارته المعاصي ولـو كنا سواء في iiالبضاعة