اختتمنا مساء الأربعاء الماضي لقاءً فكرياً حول: "واقع الخطاب الثقافي السعودي وآفاقه المستقبلية"، الذي نظمه بكل فاعلية مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني بمحافظة الأحساء، ذلك الجزء التاريخي الهام من بلادنا المباركة.
والحقيقة أن موضوع "الدين" و"الثقافة" من المواضيع التي ينجذب إليها الناس بسبب مفهوميهما، فمفهوم الدين ـ لا الدين نفسه ـ يدخل في الثقافة، ولذا شاع بين الناس مصطلح " الثقافة الإسلامية " أو " الثقافة الدينية "، مما يؤكد أن الخبرة الدينية خبرة ثقافية. إن من أكثر المصطلحات صعوبة على التعريف مصطلح "الثقافة"، رغم أنه من أكثر المصطلحات استخداماً في حياتنا المعاصرة، ولقد وفق الله سبحانه وتعالى البعض إلى ذكر أن " الثقافة " معناها إدراك الفرد والمجتمع للعلوم والمعرفة في شتى مجالات الحياة، مع تكثيف الخبرات والمطالعات لتحقيق الوعي العام.
لا جدال في أن مصدر الدين هو الله عز وجل، وهذا بلا شك لا يعارض القول إن الثقافة من صنع البشر، وما دام الأمر كذلك، فإن هذا يعني قبول الثقافة للأخذ والرد، كما يعني عدم وجود أزمة بين "الدين" و"الثقافة"، وأن الأزمة في جوهرها منحصرة في الفكر واستعمالاته، ومن الصحيح قولاً وعقلا ذكر أن الفكر الإسلامي الصحيح قادر جداً على تخطي الأزمات المعاصرة، بشرط التفقه في النصوص، وإعمال العقل في حل مشكلاتها، لأن النصوص قد تكون متضادة في المعنى ـ كما قال كبير الفقهاء في زمانه؛ الإمام الحافظ محي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف الشهير بالإمام النووي ـ وقد تكون متعارضة مع نصوص أخرى، أو مع العقل، أو الحس، أو العلم، وهنا يأتي دور المؤهل علمياً وسلوكياً ليحل ما استعصى على الناس فهمه، أو أسيئ تدبره، وهذا الأمر يستدعي التنويه إلى أن الناس في فهم النصوص على نوعين، نوع يريد أن يطوع الدين للعصر، ويجعله عجينة لينة قابلة للتشكيل في أي صورة يراها، ولو كان ذلك معارضا لمصادر الدين نفسه، ونوع يريد أن يجعل الدين في قوالب حجرية جامدة، وقد تعود أهواء هذين النوعين إلى معرفة ضحلة أو مشوشة بالدين، أو جهل مطبق في بعض الأحيان، بسبب عدم التفريق بين الجانب الذي له صفة الثبوت والخلود في أحكام دين الإسلام وتوجيهاته، وبين الجانب المرن المتطور الذي يتغير بتغير الزمان والمكان والحال. لاشك أن أحكام الشريعة المطهرة متعددة ومصادرها كثيرة، ووجهات النظر متفاوتة في كثير من مسائلها لما تحتمله نصوصها من المعاني الكثيرة، ولا شك أيضاً أن ثقافات البشر متنوعة، وعقولهم محدودة ومتفاوتة في مدى قدرتها على استنباط الأحكام من النصوص، مما ينتج عنه تضارب الأحكام في كثير من الأحيان، وهذا يعني أن الحاجة ماسة إلى التزود بالمعارف الشرعية الصحيحة من مصادر الشرع المعروفة كالقرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم بأنواعها والقياس والإجماع وغيرها، ومن مصادر المعرفة الأخرى كاللغة والتاريخ والخبرات المختلفة، فالتاريخ يعد السجل الراصد للأمم، واللغة صفة بارزة لها، والخبرات بغض النظر عن مصادرها جزء هام من أجزاء المعرفة.
يقول العارفون ببواطن الثقافة إن ستينات القرن الماضي انتشر فيها تعبير الغزو الثقافي والغزو الفكري، وهل هو حقيقة أم وهم؟ ومعنى التعبير بالغزو – آنذاك – يعني الأفكار المصدرة من الخارج، والتي أججت الصراع بين الوافد والموروث، وبين الثقافة الغازية والثقافة الإسلامية الراسخة، وليت صوتي يصل أسلافنا ـ يرحمهم الله تعالى ـ الذين خوفونا من الماضي، لأقول لهم إننا في هذا القرن نشتكي ـ مثلكم ـ من شيوع ثقافة فوضوية فكرية جديدة، لبعض أبناء أمتنا، خلطوا الحابل بالنابل، واحترفوا إيهام الناس بنصوص دينية توافق غرضهم غير النبيل، ألا وهو التبرؤ من "الموجة" وغالباً "ركوبها".